القائمة الرئيسية

الصفحات

أيُّ الكتبِ تَقـرأُ: رسالة أبٍ إلى ابنه




إبراهيم كشت
بُنيَّ ، يا أحبَّ الناس أجمعين ..
رغم أنك فتىً كثيرُ الأسئلة منذ صغرك ، ورغم أني أَضجُر أحياناً من زخم أسئلتك وهي تنهال على رأسي بتتابع وكثافة ، كانهمار المطر ، فمازلتُ أؤمن بما أقوله لك وأُكرره دائماً ، من أن السؤال أهم من الجواب ، وأنه (في البدء كان السؤال) ، وأن السؤال حتى ولم يوفّق في الوصول إلى إجابة ، فإنه يفتح آفاقاً للتفكير ، ويحفز على البحث ، ويدفعُ إلى الانتباه لأمورٍ ، ما كنّا لننتبه إليها لولا تعلّقنا بواحدة أو أكثر من علامات الاستفهام .
لكن ، ربما لم أفرح يا ابْني بسؤال من أسئلتك المتزاحمة على فمك ، مثلما فرحتُ بسؤالك لي اليوم وأنت تقول : أيّ الكتب أقرأ يا أبي ؟ فقد أحسستُ أن خلف سؤالك رغبة ، ولعلها إرادة وعزم ، بأن تقرأ ما ينفع ، وأن تسير قراءاتك وفقاً لمنهج يبني في عقلك مرجعية فكرية متينة ، وثقافة عميقة ، وأسلوب تفكير منطقي علمي ينزع إلى الإبداع . ويبني في وجدانك ذوقاً سامياً مرهفاً ، يميّز الحسن من القبيح ، ويُفرّقُ بين الرفيع والوضيع .

شيء عن كل شيء ...
يا بُني ، في مجال القراءة أؤمن بالمقولة الشهيرة التي تقضي بأن على المرء أن يعرف (شيئاً عن كل شيء ، وكلَّ شيءٌ عن شيء) نعم ، فحين يغدو لك تخصصك في المستقبل ، ينبغي أن تسعى في أن تعرف كل شيء عنه ، بالدراسة والبحث والتفكير والإطلاع والتجربة والمتابعة . أما معرفتك بشيء عن كل شيء ، فإن المدرسة تتيح لك جزءاً منه ، فهي تطلعك على مبادئ أو معلومات أساسية في مجال اللغة والدين والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الحياة والتاريخ والجغرافيا وسوى ذلك . لكن ثمة علوم كثيرة لا بد لك من الإطلاع على أسسها وفهم جوهرها ومعرفة منطلقاتها ، حتى لو كان إطلاعك هذا مبدئياً . ذلك إذا أردت أن تكون أكثر فهماً للحياة والوجود ، وأوسع ثقافة ، وأعمق فكراً ، وأكثر استيعاباً لما يتفاعل في البيئة المحيطة بك .
ولو أني كنت مكانك ، إذن لقرأتُ كتب (المدخل) أو (المقدمة) لعدة علوم وفنون ومجالات ، مثل علم النفس ، وعلم الاجتماع ، والاقتصاد ، والسياسـة ، والاتصال ، والإدارة ، والقانون . وسأقرأ كذلك مقدمات ومداخل وكتب مبسطة في مجال الفلسفة فإنها تعيين على تحسين أسلوب ومنهج التفكير . وأنا أضمن لك إن فعلت ذلك ـ يا بُنيَّ ـ أن تغدو أكثر فهماً للأفكار والأحداث والوقائع والتغيرات والعلاقات من حولك ، وأن تبدأ بتكوين فكرك الخاص بك ، بدل أن تتلقف أفكارك وقناعاتك ممن حولك ، وتقتبسها كما هي دون نقد .

إقرأ في العلم والأدب والمعاجم ...
وبعد ما تقدم يا بني ، فإني أدعوك للقراءة حول ما تلمس أنه جديد ومؤثر في حياة البشرية ، فحين تعرف مثلاً أن العلوم التي تدرسُ (الجينات) تحقق قفزات واسعة ، وتحسُّ بأنه سيكون لها تأثيرات مهمة وفاعلة في الحياة ، فابحثْ عما تقرأه من مبادئ تلك العلوم ، وما أنجز فيها ، وما يتوقع أن ينجز . ثم لا تغفل يا بنيَّ كذلك القراءة في الأدب ، فإنه يمثل التجارب الشعورية للبشر ، ويعبر عن علاقتهم بالوجود ، من خلال صور موحية ، تبعث في نفس المتلقّي الإحساس بالجمال ، وكم سيكون مُجْدياً ونافعاً وممتعاً إن تقرأ الروايات المحكمة الرصينة ، والشعر والخواطر التي خطّها أدباء وشعراء مرموقون ، يملكون الحسَّ والفكر وجمال المعنى والأسلوب . ولا تنسَ يا ابني أن توثّق صلتك بالموسعات والمعاجم ، وها هو الانترنت يتيح لك فرصاً واسعة لذلك ، لم تكن متاحة لأي جيل من قبل جيلك . فإذا سمعت بمفهوم أو مصطلح أو قرأت عنه في أي مكان ، ولم تفهمه ، فابحثْ عنه في القواميس والموسوعات اللغوية أو الفلسفية أو المتخصصة ، ولا تتجاوزه دون أن تستوعب مدلولاته .

أشِّرْ أسفل العبارات وأنت تقرأ ...
وحين تقرأ يا بني ، استخدم قلم الرصاص في التأشير أسفل العبارات التي تُلفتكَ أو تستوقفك أو تعجبك ، أو تجد فيها معنى مهماً ، أو تعبيراً رائعاً ، أو فكرة تستحق التأمل ؛ لأن ما تؤشّرُ عليه بقلمك ، يغلُبُ أن تُعيد قراءته مرة ثانية وأنت تخطُّ ذلك السطر أسفله . ويجدر بك يا ابني حين تقرأ ، أن تتوقف لحظة بعد كل فقرة لتحاول أن تعيد بسرعة الفكرة التي خرجت بها ، فمن شأن ذلك ترسيخ الأفكار التي تقرؤها في ذهنك وذاكرتك . وكم سيكون رائعاً أيضاً أن تكتب بعض الأفكار والعبارات التي تعجبك في دفتر خاص بك ، تعود إلى قراءته متى تشاء .

ربعُ ساعةٍ في اليوم تكفي ...
ولعلك ستقول لي : « يا أبي ، إن كل هذا الذي تدعوني لأن أقرأهُ كثير . « لا يا بنيَّ ، فلو أنك قرأت كل يوم ربع ساعة فقط ، لأنجزت قراءة الكثير مما دعوتك إلى قراءته في سنة أو سنتين . ولو أنكَ فكرت باستغلال أوقات الانتظار ـ حتى وإن كانت مجرد دقائق ـ في القراءة ، فسوف يزيد إنجازك في هذا لمجال ، سواء أكنت تنتظر دورك في صالون حلاقة أو عيادة طبيب ، أو كنت في وسيلة مواصلات ، أو كنت تنتظر برنامجاً تلفزيونياً ، أو كنت تنتظر أن يزورك النعاس في موعد نومك . ودُمتَ لأبيك الذي يحبك ، ويتمنى لك من الخير أعظم مما يتمناه لنفسه التي بين جنبيه .
Reactions

تعليقات