لم يكن أحد يأبه باسمه، أو يراه أصلا، رغم أن الغلام كان يتحرك في كل مكان، في المعركة يمد النبالين بالسهام، ويتذوق الطعام قبل أن يأكل القادة، ويحمل قراب النبيذ وهم يتسامرون، ولكن «كتبغا» كان أكثر ضآلة من أن يلاحظه أحد وسط هذا الجيش الجرار، الذي اجتاح العالم.
لم يلحظه أحد الليلة أيضاً، في هذا الاجتماع الخطير. وهو يقف متأهباً لأي إشارة من قادة الجيوش، ولكنهم كانوا يجلسون منكسي الرءوس، لا يجرؤون على الكلام قبل أن يتكلم القائد الاعظم هولاكو، أمامهم خارطة من القش والحجر توضح مسيرة الجيوش الظافرة، مجسدات مصغرة للمدن التي سقطت ونهبت واحترقت، خوارزم، بغداد، ميافارقين، دمشق وأخيرا حلب، وغير بعيد منها توجد مجسدات للمدن التي لم تسقط بعد، عكا وغزة والقاهرة، وكان هذا الاجتماع سيقرر مصيرها، ولكن القائد العظيم كان مشغولا بهمٍ آخر، تكلم هولاكو أخيراً:
- جرؤ الموت على الخاقان العظيم «منكو خان»، قبائل المغول كلها أصبحت في حاجة إلى خان جديد يضمها في قبضته، الرسل التي يبعثون إليّ بها من «قراقورم»، لم تتوقف، إنهم جميعاً في انتظاري.
لم يكن هناك من هو أجدر منه أن يكون «الخاقان الأعظم» فهو حفيد جنكيز خان، وهو الذي حطم أعتى الأسوار، وأحرق كبرى المدن، وبعث بالخوف في أوصال العباد والملوك، ولكن أحد القادة تساءل متوجساً:
- وماذا نفعل من دونك أيها القائد العظيم، نحن نستعد لأكبر المعارك، وفي انتظارنا تلك المدينة الغامضة «القاهرة» التي لا ندري مَن يحكمها.
قال هولاكو: سمعت عن هذا البلد كثيراً، القدر وحده هو الذي يحدد من يحكم مصر، لا سلالة الدم ولا قوة السيف ولا بريق الذهب، القدر وحده يهبها لمن يشاء، وهي طيعة لحد السأم، قانعة كمذاق الموت،القدر وحده سيخبرنا من سيحكمها منكم.
لم يفرغ هولاكو من كلماته إلا وفتح باب الخيمة بلا استئذان، وخطى العراف الأعمى داخلاً، كأنه يعرف مدى حاجتهم إليه، حدّق فيهم بعينيه الفارغتين، وحرك أنفه كأنه يتعرف عليهم من روائحهم، كان وحده من يستطيع أن يقرأ علامات الغيب، ويحس بدبيب القدر، وهو وحده الذي يحدد للقائد مكان المعركة وزمنها.
نهض هولاكو وتخلى له عن مكانه في صدارة المجلس، تراجع القادة جميعا إلى أطراف الخيمة، سار بخطوات ثابته حتى جلس في الصدارة، أدار وجهه بينهم كأنه يراهم ويقرأ ملامحهم المتوترة، قال هولاكو:
- يستعد قوادي لمواجهة بلد غامض يدعى مصر.. أريد أن أعرف من سيحكمه منهم ويكون ملكا على عرشها؟
كأن العراف كان يعرف السؤال مقدماً، أخذ يردد في صوت خافت التمائم والتعاويذ الغامضة، وتأمله القادة الذين قهروا جيوش العالم بقلوب واجفة، كان مصيرهم محكوما بالكلمات التي ستخرج من بين شفتيه، قال:
- «كتبغا» هو الذي سيحكم مصر.
ارتجف الغلام الصغير وهو يسمع اسمه يتردد على شفتي العراف، ولكن الأنظار كلها اتجهت صوب القائد العظيم «كتبغا»، قاهر ميافارقين ومدمر حلب، ابتسم هولاكو في رضا، لقد جاءت النبوءة بالشخص الذي يرضيه، أشجع قواده وأكثرهم قسوة وأقدرهم على الانتصار، هتف في ارتياح:
- فلتكن مشيئة القدر.. منذ الآن أصبح «كتبغا» هو القائد الأعظم لكل جيوش المغول، وسوف أبدأ من الغد رحلتي الطويلة إلى «قوارقوم».
تعليقات
إرسال تعليق