بدأ الغزو العثماني لمصر : كان سلطان مصر في هذا الزمان قنصوة الغوري ، وكان قد تحمّل ، شأن الكثير ممن حكموا مصر ، مسؤولية رعاية الأماكن المقدسة سواء في مكة أو المدينة أو القدس ، وكان مسؤولاً عن صناعة كسوة الكعبة وإرسالها مع المحمل ، وأسمى نفسَه " خادم الحرمين الشريفين ".
لما علم قنصوة الغوري بحشود العثمانيين التي تستعد لغزو مصر ، أرسل إلى السلطان سليم الأول رسالة جاء فيها " عَلِمْنا أنك جمعتَ عساكرك ، وأنك عزمتَ على تسييرهم علينا ، فتعجّبتْ نفسنا غاية التعجّب لأن كلنا ، والحمد لله ، من سلاطين أهل الإسلام وتحت حُكْمِنا مسلمون موحدون ".
وجاء رد سليم الأول... ولم يكن صادقاً في رده " يعلم الله ، وكفى به شهيداً ، أنه لم يخطر ببالنا قط طمعٌ في أحد سلاطين المسلمين أو في مملكته ، أو رغبةٌ في إلحاق الضرر به ، فالشرع الشريف ينهى عن ذلك "!!!.
وكان سليم الأول يُعد العُدة للغزو ، إذ كان الرجل مصمماً على غزو مصر. وبحث ونقّب فلم يجد ناقصاً لإتمام " الغزو " إلا فتوى دينية تبيح له " غزو بلدٍ مسلم ، سلطانه " خادم الحرمين الشريفين " وعلى أرضه أقدم جامعة إسلامية في العالم الإسلامي : الأزهر ، بل وتحمل أرضه أولَ مسجد بُني في إفريقيا : الفسطاط (= عمرو بن العاص ).
بحث " قاضي عسكر الأناضول " كمال باشا زادة ، فوجد الحل الذي به يُجاز غزو مصر!!! وبه يمكن إصدار فتوى بهذه الإجازة!!!... فتّش الرجل في " القرآن الكريم " إلى أن وجد قوله تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذِّكْر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون "... وتم اعتساف التفسير بتوظيف الدين نفعياً ، فأصبح تفسير هذا القول الكريم " الأرض هي مصر ، قياساً على أن الأرض وردتْ في آية أخرى مشيرةً إلى مصر ، و " عباديَ الصالحون " هم – بطبيعة الحال – العثمانيون... وذلك في نظر قاضي عسكر الأناضول ".
وكان في الأستانة مفتٍ لقبُه " مفتى الأنام شيخ الإسلام "!!!!! دخل هو الآخر حلبة المغانم الدنيوية / السياسية ؛ فأصدر فتوى تبيح للعثمانيين غزو مصر... التي مدحها الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، غير مرة ، وجاء بشأنها " " حدثت مجاعةُ الرمادة في الجزيرة العربية ، فاستغاث عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، بوالى مصر عمرو بن العاص ، وكتب له يقول:
(من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي.. سلام عليك..، أما بعد ، فتراني هالكاً ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك، فياغوثاه ياغوثاه ياغوثاه ). فكتب له عمرو : لأبعثن لك بِعِيرٍ أولها عندك وأخرها عندي. فبعث له بالطريق البري ألف بعير بالدقيق والمؤن، وبعثله بالطريق البحري عشرين سفينة محملة بالغذاء ".
قالت الفتوى " يجوز غزو مصر ، لأن أهلها قُطّاعُ طُرُق ( = رعاع ) ، والحربُ والقتال ضدهم غزوٌ وجهادٌ ، والمقتول في هذه الغزوة شهيد ومجاهد.
ولا نعجب من الفتوى أعلاه بقدر أن نعجب لرسالة سليم الأول المسؤول عن " ديار الإسلام " إذ يغزو بلداً مسلماً عبر تأويل النص الشرعي ، ذلك النص الذي يجعل دمَ المسلم على المسلم حراماً ، بل ويجعله ، الدم ، أعز عند الله من البيت الحرام نفسه!!!.
تقول رسالة سليم الأول " إن الله قد أوحى إليّ بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق إلى الغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين ، وأنا خليفة الله في أرضه ، فأنا أولى منك بخدمة الحرمين الشريفين "!.
وكان أول خير من خيرات سليم الأول " خليفة الله في الأرض " أن شنق طومان باي على باب زويلة.
لكن المصريين ، وهم أذكياء بالفطرة ، لم ينسوا تلك الفعلة الشنيعة ، فظلوا ، وليومنا هذا ، يقرأون الفاتحة لطومان باي ، وأَسْمَوْا المكان الذي شُنق فيه البرئ " بوابة المتولّي "... إذ كان المتولى أحد أسماء طومان باي.
جاء في كتب التاريخ " اتجه العثمانيون إلى الطحانين فأخذوا البغال والخيول ، وأخذوا جِمالَ السقّايين ، ونهبوا كل ما في شِوَن القمح من غِلال ، ثم صاروا يأخذون دجاجَ الفلاحين وأغنامَهم وأوزَّهم ، وحتى أبواب بيوتهم وخشب السقوف أخذوه.
ثم صاروا يخطفون العمايم ويعرّون الناس في الأماكن المفردة من بعد العشاء. وأرسل السلطان أحد أكثر قواده توحشّاً ، وهو جان بردي الغزالي ، إلى الشرقية ، فوصل إلى نواحي التل والزمرونين والزنكلون ونهبَ ما فيها من أبقار وأغنام وأوز ودجاج ، وقام بأسر الصبيان وسبي الفتيات ، باعتبار أنهم أبناء كفّار ، وراح يبيعهم في المحروسة بأبخس الأثمان ، وسارع المصريون بشراء هؤلاء الصبية من سوق العبيد والجواري ، ثم يهبونهم لأهاليهم ؛ فاشترى أحدهم بنتاً بأربعة أشرفية (= جنيهات ) ووهبها لأمها. وفوق ذلك كله فإن العثمانيين طفشتْ في العوام والغلمان ولعبوا فيهم بالسيف ، وراح الصالح بالطالح ، وصارتْ جثثهم مرميةً من باب زويلة إلى الرميلة إلى الصليبية فوق العشرة آلاف إنسان.
ثم أحرقوا جامع شيخو فاحترق الإيوان والقبة. وكان الوالي الذي تركه سليم الأول ليحكم مصر يصبح وهو مخمور ، فيحكم في الناس بالعسف والظلم ".
وعسى أن نكون قد أدركنا الدعاء المصري "يا رب يا متجلّي إهلكْ العثمانللي".
تعليقات
إرسال تعليق