ستيغما: كلما وردت الكلمة في متن الكتابات أو طرقت الأسماع فهي تستدعي ذكرى ترتبط بمعاناة الإنسان على يد أخيه الإنسان.. هي عهود الاسترقاق منذ أيام الإغريق
والرومان حيث كان السراة يتخذون العبيد والإماء ويستغلون ناتج عملهم وفائض كدحهم إلى حد كان يصل بالبشر المستعبدين إلى حال من اليأس الذي كان يسلم بدوره إلى قرار يتخذه العبد البائس إما بالانتحار أو بالفرار.
في الحالة الأولى يذهب الإنسان وتدفن معه آلامه وجراحاته.. وفي الحالة الثانية كان النظام الاجتماعي الظالم المنحاز.. يشمّر عن ساعد البحث عن العبد الهارب الذي مازالت لغات شتى تحتفظ له بمصطلح الآبق من فعل أبق في العربية ومعناها فرار العبد وقد تفرع عنه أو معه فعل تأبق بمعنى استتر واختفى إذا كان الفعل لازما.
وفعل تأبقّ الأمر أي أخفاه أو أنكره إن كان الفعل متعديا.. وإن كان التعدي في الزمن القديم الغابر يطال الفرد البشري التعيس الذي أوقعته مقاديره في براثن بشر آخرين. والحاصل أن كان اليونان واللاتين ينظرون إلى العبيد الهاربين نظرتهم إلى المجرم الفار..
يلاحقونهم ويطاردونهم فإن عثروا عليهم يبادر السادة إلى إبرة من الصلْب اللاهب أو سيخ من الحديد المحمي ويكوون بها جلد العبد الهارب (أو المجرم المدان) فإذا بالبشرة المهيضة المتشققة تحمل علامة الكي بارزة باقية كأنها صحيفة سوابق لا تنمحي بنودها..
بل تظل تلاحق باللعنة الاجتماعية هذا الإنسان الذي يشير إليه الآخرون على أنه يحمل «ستيجما» أي وصمة العار التي استمدوها من لغة اليونان التي تضم كلمة ستيزن بمعنى الوشم (تاتو) التي تطورت أموره من مستوى وصمة العار إلى مستوى علامات كانت تشغف برسمها على أديم الجسد جموع الشعوب البدائية سواء لمنع الحسد أو لطرد الأرواح الشريرة (حسب معتقداتها) أو لمجرد توصيف وتصنيف أبناء القبائل وذرية الفصائل والسلالات، إلى أن دار الزمن دورة كاملة .
وربما أكثر من دورة، فإذا بالوشم الذي كان دليلا على البدائية أو على الخشونة وقد أصبح في بلاد ترفع شعارات التقدم (أميركا مثلا) موضة محدثة تتسابق إليها جموع الشباب والشابات.. ويقيمون لها دكاكين هي عيادات الوشّامين الذين يستخدمون كاويات كهربائية.. خفيفة لكي ينقشوا على الأجساد، وفي مواضع شتى.. رسائل ورسومات وعلامات وإشارات..
منها ما يعبر عن جموح العشاق ومنها ما يؤكد شكيمة الفتوة وعزيمة الشباب.. ومنها أيضا ما يربط بين أفراد عصابات الشر والخبث والإجرام. في القرون الوسطى كانت الستيغما علامة يتعرف بها الناس على افراد ولدوا وفي أجسادهم علامات في أجزاء مختلفة.
وفيما يفهم الطب أن هذه علامات خلقية (بكسر الخاء وتسكين اللام) فإن الفكر الغيبي القروسطي كان يفسر هذه العلامات على أنها إشارات مبروكة تعود إلى ما سبق وعاناه رواد العقيدة المسيحية في بداياتها من آلام وجروح.
لكن الانجليز حرصوا على مفارقة هذه التفسيرات الغيْبية.. بدأوا يستخدمون كلمة ستيغما في القرن 16 وقد عادوا بها إلى الاستعمال الأول: علامة يمهرون بها أفراد مجتمعهم ممن يحق عليهم وصمة الرفض ولعنة الإجرام.. ومن هذه الإيحاءات السلبية كانوا يصفون سوقية اللهجات العامية وابتذال اللغة على ألسنة الدهماء بأنها.. مجرد.
ستيغما بمعنى أنها تدعو إلى الخجل وتفوح بالإسفاف.. بيد أن الكلمة ما لبثت أن حظيت بقدر من الاحترام على يد علماء النبات (بوتانست) منذ القرن 19 حين أطلقوها على أعضاء التأنيث في تركيب النبتة أو بتلات الزهرة التي تتلقى حبوب اللقاح وتؤدي عملية تكاثر النبات.. وبعدها بادر علماء الطب النفسي والعقلي إلى استخدام نفس الكلمة للدلالة على المرض العقلي المزمن.. ويلاحظ في لغتنا العربية أنها تستخدم لفظة وصم ضمن سياق سلبي حيث الموصوم هو المعيب وحيث الوصمة ترتبط بالعار.
ولكن لغتنا تتلطف في رفق وذكاء حين تستخدم ابنة عمها وهي (وسم) التي تعني أساسا الكيّ ولكن اللغة تتباعد عن هذا المعنى المؤلم لكي تتوسع في استخدام مشتقات الوسم فإذا بنا نطالع الوجه الوسيم والمواسمة بمعنى المنافسة في إظهار المحاسن.. حتى لتكاد اللغة تطلق على مسابقات ملكات الجمال عبارة.. المواسمة ليس إلا.
تعليقات
إرسال تعليق