لفت نظري ذات ليلة اختفاء بعض الذخيرة في معسكري بالصعيد، وفي الليلة التالية تكرر ذلك الشيء، فأمرت بتشديد الحراسة، وفي الليلة الثالثة وجدنا صبيا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة يتسلل وسط الظلام بصدره العاري ليخطف بعض البنادق، فقبضوا عليه وأتوا به إليّ، وسألته: لِم تسرق أسلحة الجيش الفرنسي؟
- لأنها أسلحة أعدائي وأعداء أهلي وبلادي.
- ومن حرضك على هذه الجريمة؟
- ربنا.
- وماذا قال لك ربنا؟
- قال لي دافع عن بلادك.
- هل تعرف أن عقوبتك هي الشنق؟
- نعم، وأنا المسؤول عن كل ما حدث، وهذا رأسي اقطعه إذا شئت.
وأردت أن أختبر شجاعة الصبي، فأمرت صوريا بإعدامه، فتجلّت شجاعة المواطن المصري الصغير فلم يبكِ، ولم يصرخ، ولم يطلب العفو، ولكن رفع رأسه إلى السماء وتمتم ببعض آيات قرآنية.
وهنا راعني ذلك الموقف الفريد، فأمرت بوقف الإعدام، واستبدال الجلد به ثلاثين جلدة كنوع من التأديب، وقد تحملها ذلك البطل الصغير دون أن يفتح فمه بآهة واحدة، فلم أملك إلا أن أوقف الجلد وتوجهت إليه قائلا: يا بني.. سأكتب في تقريري اليوم أنني قابلت أشجع ولد في الصعيد، بل أشجع ولد في العالم كله.
وقبل أن أطلق سراحه أمرت له ببعض النقود، ولكنه رفضها بكل إباء وشمم، ودهش المسيو (فيفيان ديتون) المؤرخ الفرنسي الذي كان حاضرا ذلك الموقف، فما كان منه إلا أن يعرض على الصبي أن يتبناه ويأخذه معه إلى باريس ويكفل له مستقبلا سعيدا، فرفض قائلا له: ستندم على تربيتك لي، لأنني سأقتلك وأقتل معك من أستطيع من أعداء وطني.
تعليقات
إرسال تعليق