القائمة الرئيسية

الصفحات



 كان من أبرع الساسة على الإطلاق، فإنجازاته وقدراته على نسج السياسة الخارجية بالداخلية، والقدرة على المناورة والكر والفر السياسي - يجعل لفظ «الداهية الألماني»
حقا مكتسبا له، والرجل ينتسب إلى مملكة بروسيا وكانت ولاءاته لملكها منذ اليوم الأول، فهو لم يكن ثوريا، بل إنه كان رافضا لفكرة الثورة في المقاطعات الألمانية، لأن هدفه كان توحيدها قبل النظر إلى نظامها السياسي، وكان يرى أن هذه المقاطعات والإمارات الألمانية في حالة ضعف وتفكك ومفتوحة أمام التدخلات الخارجية من فرنسا ودولة النمسا، وبالتالي فإن الوحدة الألمانية هي السبيل الوحيد أمام فرصة الشعوب الناطقة بالألمانية لكي يكون لها دورها في صناعة المستقبل.

بدأ بسمارك حياته كرجل قانون في المحاكم البروسية، ولكنه سرعان ما استقال وبدأ يباشر أملاك والده، ولم يكن الرجل يخفي مشاعره الرافضة للفكر الليبرالي، حتى إنه عارض نتائج مؤتمر فرانكفورت الشهير عام 1849 الذي قدم أول اقتراح لدستور موحد لألمانيا الموحدة، ثم أصبح ضمن قلة قليلة معارضة عندما انتخب عضوا في البرلمان، وقد بدأت حركته السياسية تتوسع بعد أن عين ملك بروسيا أحد أصدقائه، وهو الجنرال «فون روون»، وزيرا للدفاع وأسند إليه مسؤولية تطوير الجيش البروسي، وهو أمر حاربته القوى الليبرالية بشدة خشية استخدامه لضرب القوى الليبرالية في المقاطعات الألمانية، وقد فتحت هذه الصداقة المجال أمام بسمارك ليقترب من الملك، فتم تعيينه سفيرا في موسكو ثم باريس، إلى أن تم استدعاؤه على وجه السرعة عام 1862 للمساندة في منع الملك البروسي من التنازل عن العرش أمام ضغوط التيار الليبرالي في البلاد، وقد لعب بسمارك دورا مهما في إبقاء الملك في مكانه، فتم تعيينه في اليوم التالي رئيسا للوزراء البروسي.

منذ أن تولى بسمارك مقاليد الأمور، بدأ بامتلاك خيوط اللعبة السياسية، فكانت خططه واضحة لا مجال للبس فيها، فتطوير الجيش كان أولوية، لأنه كان على يقين بأن الوحدة الألمانية ستتطلب مواجهات عسكرية مع القوى الخارجية، لا سيما دولة النمسا التي كانت تشارك سياسيا في البرلمان الألماني وتبسط نفوذها على مقاطعات ألمانية بعينها، كما أن فرنسا لم تكن لتسمح بظهور مارد ألماني يخل بمعادلة توازن القوى في القارة الأوروبية، ومع ذلك فإن التيار الليبرالي ظل ينظر إلى الرجل على اعتباره عدوه الأول، وحاربه بكل قوة، ورفض تمرير أية مشاريع قوانين تسمح له بالتوسع في الإنفاق العسكري والإصلاحات الإدارية في البلاد، فنظر بسمارك للأمر على اعتباره جزءا لا يتجزأ من حقوق الملك البروسي، وأخذ على عاتقه مسؤولية التمويل المفتوح دون غطاء من البرلمان، وهو ما وسع المسافة بينه وبين الشعب البروسي إلى أن أصبح الرجل مكروها في أغلبية الأوساط.

مع تكالب أغلبية الظروف ضد بسمارك، إلا أن خططه استمرت ولم تتغير، وقد عكستها خطبته الشهيرة المعروفة بخطبة «الدم والحديد» التي تعد من أهم الخطب السياسية في التاريخ الحديث، ففيها أعلن بسمارك سياسته وهي أن ألمانيا لن تقوى من خلال حرية الخطابة، ولكن من خلال سياسة تعتمد على «الدم والحديد»، أي إن ألمانيا تحتاج لتطوير وتنمية وحروب لكي تقوى وتأخذ مكانتها في القارة الأوروبية.

وعلى الفور، بدأت حركة التطوير تأخذ مجراها خاصة في الجيش، وتوازت معها حركة أخرى لا تقل أهمية دعمت من فرص التوحد الألماني من خلال تفعيل «الاتحاد الجمركي» الذي سبق لبروسيا إنشاؤه لتوحيد التعريفة الجمركية مع عدد من المقاطعات الألمانية في ما عرف بالـZollverein، وقد ركز بسمارك على عملية التكامل الاقتصادي وجعلها تأخذ مجراها الطبيعي استعدادا للاندماج السياسي في ما بعد، وهو ما يعيد للذاكرة على الفور نموذج الاتحاد الأوروبي. أما الثورة الإدارية التي أدارها بسمارك وهو رئيسا للوزراء، فكانت خطوة مهمة للغاية لتكون أساسا للتوحد الإداري لألمانيا، أما سياساته الاقتصادية فقد سمحت لبروسيا بأن تقود الصناعة والتجارة في الدويلات والمقاطعات الألمانية، وأصبحت مسألة توحيد المقاطعات الألمانية مسألة حنكة وسياسة وتوقيت لم يتأخر بسمارك فيهم كثيرا، فكانت تحركاته التالية تمثل مدرسة في فن الدبلوماسية والسياسة، فاستطاع الرجل في أقل من عقدين من الزمان تحقيق حلم داعب الشعوب الألمانية لقرابة 14 قرنا من الزمان.
Reactions

تعليقات