القائمة الرئيسية

الصفحات


                                                         

كان “هارون” يقول لامرأته كل مساء تقريباً، وهو يتناول عشاءه:
- سوف يصبح جارنا غنياً. الزبائن يتدفقون عليه منذ الصباح حتى مغيب الشمس. لا أمر أمام حانوته، إلا وأراه مكتظاً بالشارين.

.
وكان يسعل كلما فرغ من عبارته، وتفتر شهيته لتناول الطعام. هارون له عينان رماديتان، مبلوعتام إلى باطن، تلفهما أجفان سميكة حمراء، وتنبثق منهما نظرة، حتى امرأته لا تشعر أمامها بالارتياح. وكان يتذمر دائماً من طعام زوجه، ومن الشمس، والمطر، وعطاء حقله. وامرأته ذات الوجه الرخو الكئيب، والنظرة الضائعة، لا تذكر أنه بش لها مرة، أو ابتسم. وكانت قد رأت صهرها يغازل أختها الصغرى، ويداعبها، بل ويلعب معها أحياناً كطفل صغير.
.
وفي يوم، وكان الطقس رائعاً، شعر “هارون” فجأة أن قدمه تتورم. ولم تكن تنقصه الأسباب ليغضب، ويسب. نادى امرأته خائفاً، وأشار إلى ما أصابه، لكن المرأة لم تنبس بكلمة واحدة. حدقت في القدم المتورمة، وانخرطت في بكاء صامت حزين، فانهال عليها “هارون” سباباً، وأراد أن يضربها، لولا أن الورم كان يزداد ويتسع، كأنه جنون ألم بجميع خلاياه. تورمت الساق أيضاً، ثم الفخذ، ثم البطن. ورغى فمه، وتلامح في النظرة الجاحظة خلف أجفانه اللحمية الحمراء رعب محتقن. كان أنبوباً من المطاط ينفخ بالهواء. وظلت المرأة صامتة تبكي، بينما ازداد ارتخاء وجهها الكئيب.
.
تلك حادثة غريبة،، أثارت اهتمام الناس، وجعلتهم يبسملون مشفقين على “هارون”.. راثين مصيره، لا سيما حين فشل فيما بعد كل نطاسيي بلده، والبلدان المجاورة من شفائه، أو حتى تخفيف أورامه. ومع كل فشل، كان “هارون” يزداد سخطاً وتشكياً. وفي أحيان، يجدف بقسوة تجعل امرأته ترتعد من الجذور، وتتمتم مستغفرة، لاعنة إبليس وغوايته. وقد زار الشيخ “رجب”، الذي صيّر البلوط زيتوناً أخضر، وكذلك الشيخ “إبراهيم”، الشهير بتقواه، لكن ما كان الورم ليتراجع أنملة، مما أشعل في صدره التذمر والسخط أكثر فأكثر.
.
ومع الأيام، امّحى الخوف، وتعود الناس الحادث، حتى نسوا “هارون” القديم. وانزوى الرجل المتورم في داره، متدثراً بنظرة يُفحّمها الغلّ، وفيض من الأفكار المتبرمة والهواجس الغريبة. فمثلاً كان يفكر عندما تمضي زوجته لتقوم بأعمال الحقل، أن جميع السكان قد تركوه في زاويته مهملاً، ومضول خلسةً إلى مكانِ قصيّ هاربين من زلزال سيدمر كل ما هو قائم. وكانت حواسه تنتبه إلى حد الشعور فعلاً بأن الأرض تنتفض وتهتز. وفي أحيان كان يحس أن الريح قد هبّت من أقاصي البحار لتفري عظامه، وتقتله. والفئران لا تطل من جحورها، إلا لتقرض أصابعه حين تغفل عيناه قليلاً. والكلب يتثاءب فكاه شهوةً إلى لحمه الأصفر المتورم. والرب جزار سيهاجمه ليلاً بالساطور، وهو يقهقه كاشفاً عن أسنانٍ صفراء. ومراراً كان يفكر بجاره، الذي يزدحم حانوته بالمشترين، ويتمتم بأن الغالم وحوشٌ وذبابٌ وهوام. حينئذٍ كان يكظّ صدره الحنق، فيزحف إلى الدار، ليجلس تحت شجرة الخروب، التي لم تمجل رغم ازدرائه لها.
.
وعصر يوم.. بينما كان ملقى تحت الشجرة ينظر إلى أورامه ساخطاً، فاجأ خلوته عجوز طويل القامة، ذو وجه حاد الملامح، وعينان نفادتان، لكنهما مغسولتان بعذوبة آسرة. يتوكأ على عصا طويلة متآكلة الطرف، وينحني ظهره قليلاً تحت كيس يبدو أنه ليس خفيفاً. وبادره بصوت يذكر بغناء الأمهات:
- السلام عليك يا صديق!
بعد الدهشة، طفا على عيني “هارون”، وهو يرمق العجوز، اشمئزاز وقح، ولم يجب، بل سأل جاف اللهجة:
- ماذا تريد؟!
لم يغضب العجوز؛ بل على العكس، غاصت نظراته أعمق في العذوبة، وقال:
- لقد حييتك.
لكن “هاروناً” عاد يسأل أكثر جفافاً:
- وإذن.. ماذا تريد..؟
ابتسم العجوز، ووضع كيسه على الأرض، فانبعث منه رنين، ثم جلس هو الآخر جوار “هارون”، وبرفق أخذ يتلمس يده الغليظة المتورمة غير آبهٍ بذهوله. وإذ سحب “هارون” يده أخيراً، قال العجوز جاداَ:
- أتبيعني هذه اليد؟
- ماذا تقول؟
صرخ “هارون” باندهاش، فكرر العجوز رؤوم الصوت:
- أسألك، إن كنت تبيعني يدك؟
عندئذٍ احتد “هارون”:
- اسمع آيها الرجل. لا ينقصني النكد.. ولا امتاعب أيضاً. فوفّر سخريتك، وإلا سمعت ما لا يسرك.
- لكني جادّ.
- جادّ!!
- نعم جادّ.. وإلا ما تظن؟ (وترقرقت ابتسامته) سامحك الله.. أأنا من جنس الساخرين العابثين!
تفرّس “هارون” في وجه العجوز لحظات، ثم طاف مكر ناقم على قسماته، وسأل:
- طيب.. إذا كنت سأبيعها. فكم تدفع؟
أجاب العجوز باهتمام:
- مئتي ليرة ذهبية.
- كم؟ (فاض وجهه بالدهشة، وهو يسأل)
- قلت لك مئتي ليرة من الذهب.
- مئتي ليرة من الذهب! وهل تملك هذا المبلغ؟
- معي أضعاف هذا المبلغ. ألا ترى كيسي؟ إنه مليء بالذهب.
وبحركة شرهة وسريعة، وثيت أصابع “هارون” تجّس الكيس، ووسوس الذهب داخله، فغمره الذهول، حتى صار يتلعثم بالكلام:
- ولكن.. انظر.. إن يدي مريضة ألمّ بها الورم الخبيث كباقي أعضائي. وما دفعته يمكن أن يشتري به المرء قصراً حقيقياً.
ابتسم العجوز، وقال:
- القصور؟ وما قيمة القصور؟ يدك ما تزال حية. وهي تساوي كل قصور الدنيا.
فالتمعت قبسة واهنة في وجه “هارون”، ورقّ صوته:
- أتظن ذلك حقاً؟
- بالتأكيد إني أظن ذلك.
.
وبعد برهات صمتٍ، كان ينمو خلالها شيءٌ غامضٌ في دخيلة “هارون”، قال:
- وإذا أردت أن أبيع ساقي، فبكم تشتريها؟
فأجاب العجوز:
- بثلاثمائة ليرة ذهبية.
- ثلاثمائة!
- نعم..
وتمتم “هارون” منفعل الصوت:
- إن أطرافي وحدها ثروة حقيقية. ثروة لا يحلم بها المرء.. آه.. قل لي بحق الله.. هل أنت تسخر مني؟
- يا رجل.. إن شكوكك تؤلمني. أتريد أن أعدّ لك الثمن؟
وفاضت ابتسامة حبور على وجه هارون، وتحسس أطرافه بحنو ودهشة، وغمغم:
- لا.. لا أريد أن أبيعها.
وشردت عيناه برّاقتين في الأفق البعيد، بينما اختفى الرجل العجوز وكيسه.
.
في المساء.. وكم كان ذلك غريباً، بدأت الأورام تخفّ. وانغمر “هارون” يتأمل بذهول السماء المبهورة بالنجوم. وقد تذكر عندئذٍ فقط، أنه لا يعرف كيف دخل العجوز إلى الدار، ولا يعرف كيف مضى!
Reactions

تعليقات