اعداد: مدني قصري- الحدس وظيفة يصفها الناس في كثير من الأحيان بالحاسة السادسة. فهي في رأي برنار بودوان، مؤلف كتاب "كيف تطور حدسك"، لغة سرية يجب أن نُنصت إليها ونسعى لترويضها.
فإذا كان الكثير من الناس لا يؤمنون بالحدس، لأنه لا يخضع للعقل، فقد ظل الكثير من الناس أيضا ولأمد طويل يصفون الحدس بالشيء الغامض الذي يحسون به ولا يجدون له تفسيرا.
لكنْ عند دراستنا لهذه الظاهرة نكتشف وندرك أنها في المقام الأول شيء حميم جدًا، كامن في ذات كل واحد منا. فالحدس نوع من المعرفة التي تنبثق بشكل مفاجئ، وإنه في الواقع علاقة بين العالم الخارجي وعالمنا الجواني. فكثيرا ما يحدث أن نحصل على وميض من المعرفة العفوية من دون المرور عبر وظيفة العقل.
فالحدس ينشأ عفويا عندما نكون في وضع معيّن معقد لا نرى فيه مخرجا فتنبثق فينا فجأة صور أو أفكار أو مشاعر تتجلى في رؤى مختلفة عمّا كنّا ننتظره أصلا. وبوضوح أكثر نقول إن الحدس يعطينا معلومة محددة يرافقها يقينٌ بأنها المعلومة التي ننتظرها. ومن المهم أن نعرف أن ثمة ألوانا من الحدس. فهذه الألوان قد تحدث في اليقظة، أو في أحلامنا أثناء النوم، أو في أحلام اليقظة.
ناهيك عن أن الحدس ليس مقتصرا على فئة معينة من الأشخاص، وإنما يطال جميع الناس بلا استثناء، من الأطفال والكبار، ومن الرجال والنساء.
والقاسم المشترك الوحيد لألوان الحدس هو أننا لا نملك أي سيطرة عليها، بل يفضَّل أن نُنصت إليها ونوليها اهتمامنا لأنها اليقين المطلق، حتى وإن عجزت حواسنا العقلانية عن تفسيرها.
ولكن، ما هو دور الحدس، أو بالأحرى الحاسة السادسة؟ في هذا الشأن يقول برنار بودوان "للحدس دور نوعي. فهو يفتح أعيننا على وضعية خاصة. فعندما نكون أمام خيار حاسم نجدنا فجأة نتخذ قرارنا وفقًا لحدسنا. وكثيرا ما يكون حدسنا الأول هو المُصيب".
ولكنْ هل النساء أكثر حدسا من الرجال. أجل، النساء أكثر حدسا من الرجال والسر في ذلك أن النساء يملكن جوانية وطاقة أعلى من الرجال على إدراك الأشياء المنبثقة في أعماق الذات. وهناك أيضا ما تتمتع به النساء من حساسية مفرطة، ومن ثم فإن النساء أكثر استقبالا وتأثرا بالأحاسيس والارتجاجات النفسية العميقة، وبالأشياء الكامنة.
فلا غرو أن نسمع الأمهات يقلن أحيانا قبل حدوث أمر ما "إن قلبي يحدثني بأن هذا الأمر سيحدث قريبا". لكن هذا لا يعني أن الرجال لا يملكون هذه الحاسة السادسة، وخير دليل على ذلك أن كبار المخترعين والمبدعين كثيرا ما يلجأون إلى الحدس فيما يبتكرون ويُبدعون.
لكنْ هل لجميع الناس نفس المخزون الكامن من الحدس؟ ويجيبنا برنار بودوان بأنه لا بد من أن ندرك أن الحدس شيء خاص بكل فرد، "فكأننا في الحدس نعيش الجانب الخفي من ذواتنا. لكن ليس لجميع الناس نفس المخزون من الحدس، والسبب في ذلك، ببساطة، أننا لا نعيش كلنا في نفس مستوى الحالات النفسية".
فهناك عوامل مُحبطة ومعيقة للحدس، كالخوف من أن نفقد سيطرتنا على أنفسنا، أو نكون متشائمين، أو أن تكون لدينا مشاعر مكبوتة. لذلك لا بد من أن تتوفر الأرضية المناسبة، والمناخ النفسي الملائم لكي ينمو الحدس فينا ويصبح طليقا".
المشكلة أن الكثير من الناس يجدون صعوبة جمة في الاقتناع بأن الحدس ظاهرة قائمة بذاتها، وظاهرة لا حول لنا فيها، ولذلك وجب علينا أن نوليها ما تستحقه من اهتمام بالغ، وأن نمنحها الاعتماد، وندرب أنفسنا عليها، لما تحمله من إمكانات لا غنى لنا عنها في حياتنا اليومية، وفي ما نخطط له من مشاريع لمستقبلنا.
فالبعض يخافون من الحدس فيسارعون إلى كبته بدافع الخوف أو التشاؤم، أو بوصفه بـ"اللامعقول"، لأنهم لا يجدون لتفسيره سبيلا باللجوء إلى أدواتهم "المعقولة. فالحدس في رأي الباحث برنار بودوان لغة سرية، وهو جزء من أسرارنا الحميمية التي نحرص على إخفائها. لكنْ مهما فعلنا يظل الحدس استعدادا فطريا في أعماقنا، وجزءا لا يتجزأ من ذواتنا.
ويقول "إن تعذر علينا برمجة الحدس فإننا نستطيع أن نضع أنفسنا في وضعية ملائمة تساعد على انبثاق عملية الحدس فينا".
ولكن إذا كان الأمر ممكنا حقا فما العمل حتى ننمي الحدس فينا؟ هناك بطبيعة الحال مُحفزات إيجابية كثيرة تتيح لنا تنمية الحاسة السادسة، لكن لا بد قبل كل شيء من أن نقرّ بأن الحدس مرهون بنا، وبالأهمية التي نوليها إياه.
وهنا يوضح الباحث قائلا "فحتى تصبح العملية سهلة فالأفضل لنا أن نحمل صورة إيجابية عن أنفسنا، ومن هنا لا بد من أن نكون بمثابة جهاز مُرسِل ومستقبل في آن، لأنّ الحدس يدفعنا إلى فتح قدراتنا على الاستماع وعلى البث معا. وعمليا يجب في مجال السياق الخارجي لنمو الحدس أن ندرّب أنفسنا على التنفس الجيد، وعلى الأكل الجيد وعلى النوم الجيد، وعلى الخصوص أن نتعلم الإصغاء إلى أنفسنا".
لأن الحدس قبل كل شيء هو دليلنا، وهو بالتالي نمطٌ نوعي من المعرفة. بمعنى أنه يأتي دائما كردّ على أحاسيسنا. ولكن، من أين يأتي الحدس؟ فهل هو قادم من عالم الروح؟ ويجيبنا برنار بودوان قائلا "إذا كنت تتحدث عن الروح من الزاوية الدينية الصرفة أقول لك "لا، لا علاقة للحدس بالدين". لكن بالمعنى الأعم يظل الحدس بابا واسعا لانفتاح العقل على آفاق جديدة لا يجدها في الكتب، ولا توفرها له مدرجات الجامعة. فهو لقاء عميق مع الذات، والأهم من ذلك أن تنمية الحدس صارت اليوم جزءا من التنمية الشخصية التي تلقى اهتماما كبيرا في بلاد الغرب.
يقال إن المرء لا يستخدم سوى جزء ضئيل من دماغه، وهذا صحيح، لأن الحدس جزء من الأجزاء المعطلة في الدماغ. ففي العادة لا يستعمل الإنسان سوى حواسه الخمس، ولكن أحيانا يجد نفسه فجأة أمام حاسته السادسة، فيقرّها ويعتمدما، أو يلغيها ويكبتها، بدعوى أنها "لامعقولة".
يقول المحلل النفسي كارل غوستاف يونج عن الحدس "إن الحدس، بطبيعة الحال، بصفته وظيفة لاعقلانية ليس بالنسبة للعقل أمرا يسهل فهمه. فهو كما ذكرت في مواطن كثيرة، إدراك يعْبر إلينا بواسطة قناة اللاشعور. ومن مميزاته أننا لا نستطيع أن نحدد أين وكيف يولد، ويبدو أن الحدس قادر على السير عبر مختلف الدروب، حتى يتيح لنا أن نرى ما يحدث فيما وراء منعطف من منعطفات الحياة الخفية عن أعيننا. لست أعرف كيف يعمل الحدس، وكيف يصل المرء فجأة لمعرفة شيء هو لا يعرفه أصلا. لست أدري كيف عرف هذا الشخص هذه الحقيقة، لكنني على يقين من أنه حقيقي، ويمكن أن يكون قاعدة للانطلاق واتخاذ القرار".
ويختم برنار بودوان بحثه بالقول "لقد أكد لي وضع هذا الكتاب بعض الأشياء. ولا سيما أن كل فرد يحمل في داخله جزءا خفيًا لم يبلغه من قبل. وبخاصة أن هذا الفرد إذا ذهب إلى أعماق هذه المعرفة سوف يكبر شأنه ويعظم كثيرا. فالفكر البشري الذي تصنعه التربية والمجتمع والسلطة لا يكفي. ولذلك فمن مصلحة كل واحد منّا أن يفتش عن الجزء الخفي في أعماقه. فهو متاح ومجانا. ناهيك عن أن توظيف الحدس قد يوفر عنّا متاعب كثيرة، فالسائق الذي يملك حدسا بإمكانه أن يتفادى حادثا مميتًا، لأن الحدس يُنبئه بالخطر قبل وقوعه، والمرأة التي توظّف حدسها يمكن أن تتفادى قبل فوات الأوان، الخطيب السيئ ولا تنخدع بوعودٍ معسولة.
تعليقات
إرسال تعليق