كانت تجارة الجواري رابحة في العصر العباسي ، كان يؤتى بهن من بلادهن الأصلية ويقوم النخاسون " تجار الرقيق " بتعليم الجارية الحسناء علوم اللغة والأدب والشعر والغناء والألحان مع أساليب المحادثة والبروتوكول .وكانت الجارية يؤتى بها من بلادها ساذجة وسرعان ما تتحول إلى دائرة معارف وقد صقلوا عقلها لتضيف إلى جمال الوجه والجسد حلاوة اللسان وذكاء العقل وحسن الحديث وحضور البديهة ، وحينئذ يعلو ثمنها وتكون مرشحة لقصور الخلافة وقصور الوزراء وعلية القوم .
2- وكانت الخيزران واحدة من هؤلاء ..جاء بها النخاس إلى مجلس المهدي ولى العهد في خلافة أبيه المنصور ، وتأملها المهدي واستعرض جمالها فأعجبته إلا خشونة ساقيها ، وصارحها برأيه فردت عليه بجواب أثار عقله وكوامن شهوته فاشتراها وحظيت عنده ، فولدت له الهادي ثم الرشيد ، وكلاهما تولى الخلافة . ومن أبناء الرشيد تولى الخلفاء الأمين ثم المأمون ثم المعتصم ثم توالى الخلفاء وكلهم أحفاد الخيزران .
ويقول أحد أحفاد الخيزران وهو هارون بن عبد الله بن المأمون يصف اللقاء الأول بين الخيزران وجده المهدي " لما عرضت الخيزران على المهدي قال لها : والله يا جارية انك لعلى غاية التمني ، ولكنك حمشة الساقين ، فقالت : يا مولانا انك أحوج ما تكون اليهما لا تراهما ...!! فاشتراها وحظيت عنده .. "
3- ومع أن الخيزران حظيت عند المهدي إلا انه تزوج غيرها بعد أن تولى الخلافة ، ففي سنة 159 هجريا تزوج ابنة عمه صالح بن على العباس ، ولكي يرضى حبيبته الخيزران فقد اعتقها في نفس العام وتزوجها .ثم حج سنة 160 هجريا وأثناء زيارته للمدينة تزوج رقية بنت عمرو من نسل عثمان بن عفان . ومن الطبيعي أن تكثر المشاكل بين الخيزران والمهدي وان تتجرأ عليه بسبب ما تعرفه من مكانتها في قلبه ، والمؤرخ الواقدى كان صديقا للمهدي يحكى له تاريخ السابقين ، وأثناء جلوسهما حدث مرة أن قام المهدي وقد اشتاق للخيزران ، ثم ما لبث أن عاد يشكو للواقدى يقول له : دخلت على الخيزران فقامت الى ومزقت ثوبي وقالت : يا قشاش ما رأيت منك خيرا . واني والله ياواقدى إنما اشتريتها من نخاس وقد نالت عندي ما نالت وقد عقدت البيعة لولديها ليكونا الخلفاء من بعدى ومع ذلك تفعل بي ما فعلت ...
وأخذ الواقدى يحدثه ويسرى عنه ويوصيه بها خيرا ، فقد كان الواقدى من الكياسة وحسن التصرف ما يجعله يفهم ان من الخير له أن يكسب رضي الخيزران فان حصل ذلك فقد اكتسب رضي المهدي أيضا ، إذ لابد للمهدي – وهو الخليفة – أن يحكى كل شيء لحبيبته ، وفعلا حاز الواقدى رضي المهدي ورضي الخيزران وحاز جوائزهما معا .
ثانيا
1- لقد تمتعت الخيزران بنفوذ سياسي هائل في خلافة المهدي إلا أن ابنها الهادي حين كان وليا للعهد فى خلافة أبيه لم يكن يرتاح إلى هذا ، ولم يكن ذلك خافيا على أمه الخيزران لذا استغلت كل نفوذها حتى أقنعت زوجها المهدي بأن يقدم الرشيد في ولاية العهد على الهادي ،لأن الرشيد كان أكثر طاعة لها من الهادى. وفى محرم 169 كان المهدي قد صمم على تنفيذ رأى الخيزران بتقديم الرشيد على الهادي ولكن سرعان ما مات بطريقة غامضة !! وتولى الخلافة الهادي ... فكان لابد أن تثور المشاكل بينه وبين أمه الخيزران .
2- كان الهادي شابا قوى البنية رشيق الحركة بحيث كان يقفز على الدابة وعليه درعان ثقيلان ،
قال عنه المؤرخ ابن طباطبا انه متيقظ غيور شديد البطش ذو إقدام وعزم . لذا كان من المنتظر أن تفقد الخيزران في خلافته نفوذها الذي تعودت عليه . إلا أن الطبري يذكر أن الهادي سمح باستمرار نفوذ أمه أربعة اشهر وقال : وكانت الخيزران في أول خلافة ابنها موسى الهادي تفتات عليه في أموره وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهى .إلا أن الهادي ما لبث أن ثار على ذلك الوضع ولم يحتمله فقال لها : انه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك ، وعليك بصلاتك وتسبيحك .
3 ـ إلا أن المواكب التي اعتادت الوقوف بباب الخيزران استمرت في التوافد عليها ، واستمر أصحاب الحاجات يطرقون بابها لتتوسط لهم بنفوذها ، فلجأت الخيزران لابنها تكلمه في قضاء بعض الأمور فرفض ، فقالت له : أنى ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك ، فغضب الهادي وقال : ويل له .. والله لا اقضيها له ، فقالت : إذن والله لا أسألك حاجة أبدا فقال : إذن والله لا أبالى ، فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها وصرخ فيها : والله لئن بلغني أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك ، ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم ؟ أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك ؟ ثم إياك وإياك أن فتحت بابك لمسلم أو ذمي .. " فانصرفت عنه وما تعلم كيف تسير .. وقاطعته بعدها فلم تكلمه ...
4- والتفت الهادي إلى أخيه هارون الرشيد يحاول أن يخلعه من ولاية العهد ليضع مكانه جعفر ابن الهادي .وتحركت الخيزران لدرء هذا الخطر عن ابنها الرشيد .. ولم يكن لها أن تنجح في منع الهادي إلا بطريق واحد هو اغتيال الهادي .. إلا انه ليس من المنتظر أن تقدم الخيزران على اغتيال ابنها لذلك السبب وحده ، لذلك تأتى الفعلة الأخيرة من جانب الهادي لتجعل الخيزران تقتنع بأنها إذا لم تقتل الهادي فان الهادي سيقتلها وربما يقتل ابنها الرشيد أيضا . فقد بعث لها الهادي بطعام مسموم مع رسالة منه إليها تقول : انه استطاب ذلك الطعام فأحب أن تأكل أمه منه ، وكانت على وشك أن تأكل ، لولا أن جاريتها خالصة حذرتها ، وربما تذكرت المصير الغامض للخليفة المهدي من قبل ، وجاءوا بكلب أكل من ذلك الطعام فتساقط لحمه ومات . ومع نجاة الخيزران من هذه المؤامرة إلا أن تآمر الهادي لم ينقطع عن أخيه الرشيد ، لذلك تحركت الخيزران فدست بعض الجواري فقتلن ابنها الهادي خنقا وهو نائم. ومات الهادي شابا سنة 170 هجريا . وبعثت الخيزران إلى يحيى بن خالد ليتولى عقد الخلافة للرشيد في نفس الليلة .ومات الهادي بعد خلافة قصيرة بلغت سنة واحدة وأقل من شهرين ...
أخيرا
واستمتعت الخيزران بنفوذها في خلافة ابنها الرشيد، يقول الطبري : وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور وكان يحيى بن خالد البرمكى يعرض عليها الأمور ويصدر عن رأيها. وفى سنة 171 ذهبت الخيزران إلى مكة في شهر رمضان فأقامت إلى وقت الحج وحجت ، وتوفت بمكة سنة 173 ، وقد حزن عليها ابنها الرشيد وحضر جنازتها حافيا . ودفنت بمقابر قريش .
تعليقات
إرسال تعليق