القائمة الرئيسية

الصفحات


أين الخير في الدنيا إن لم نبر والدينا ويبرنا أولادنا؟

ولذلك نجد أن الأديان كل الأديان، سماوية كانت أو أرضية مدعاة لم تختلف على هذا الأمر، فبر الوالدين وطلب مرضاتهما هما سبيل السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

وفي القرآن الكريم أعقب الله -عز وجل- بر الوالدين على الإيمان به، دلالة على أهمية بر الوالدين.

الحقيقة أنني عندما أمسكت القلم لأكتب المقال، لم يكن هدفي بتاتاً أن أكتب عن بر الوالدين، فالموضوع مفروغ منه منذ أن كان مجرد موضوع إنشاء في مادة اللغة العربية للصف الرابع الابتدائي، ونحن نردد في ببغائية طفولية: "أمي التي حملتني في بطنها تسعة أشهر وأرضعتني من لبنها بلا بلا بلا بلا "، في جمل كلاشيهية محفوظة.

لكن هدفي كان كتابة مقال عن موضوع مضاد تماماً لعقوق الوالدين، ألا وهو عقوق الآباء.

لكنني تفاجأت، وأنا أبدأ موضوعي أن القرآن الكريم ليست به آية واحدة تأمر ببر الوالدين، لكنها تأمر بالإحسان إليهما فقط، بينما ورد لفظ بر الوالدين فقط عند الحديث عن علاقة الأنبياء بذويهم.

وهنا ثار فضولي، وقررت أن أفرد هذا المقال للحديث عن الفرق بين الأمرين، (الإحسان والبر).

إن آية واحدة في القرآن الكريم لم تشر لبر الوالدين صراحة إلا في حالة الأنبياء، ففي الآية رقم 14 من سورة مريم ذكر رب العزة عن صفات سيدنا يحيى "وبراً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِياً".

بينما ذكرت الآية رقم 32 من نفس السورة (مريم) على لسان سيدنا عيسى "وبراً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياً".

أما باقي آيات القرآن التي توصي بالوالدين، وترشد للطريق القويم لمعاملتهما لم تأت بها مطلقاً كلمة "بر" بل استخدم المولى -عز وجل- ألفاظاً من مشتقات كلمة الإحسان.

فنجد الآيات التي تتحدث عن "بر الوالدين" جاءت كالتالي:
1- "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ" (البقرة: 83).
2- "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً" (النساء: 36).
3- "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (الأنعام: 151).
3- "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إلى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (العنكبوت).
وهكذا مع باقي الآيات، فما هو الفرق بين "بر الوالدين" وبين "الإحسان" الذي أمرنا الله عز وجل به تجاه الوالدين.

إن الإحسان في اللغة كما جاء في كتب السابقين هو من الفعل (حسن)، وهو كل مبهج مرغوب، من ناحية العقل، أو من ناحية الهوى.
أما لفظ الإحسان في القرآن الكريم فقد ورد على أكثر من معنى.
الأول وهو الأمر الإلهي بالإحسان للوالدين، وهو يعني أن تفعل مختاراً كل أمر حسن لوالديك، والفعل هنا اختياري بإرادتك، تفعله أو لا تفعله، ولكنك إن اخترت أن تفعله فقد اخترت اختياراً عظيماً لا يعلو قدره إلا اختيارك أن تكون مؤمناً موحداً بالله عز وجل، ولذا نجد أن المولى سبحانه وتعالى أورد الاختيارين متعاقبين في أكثر من موضع بالقرآن الكريم، بصفتهما الخيارين الأمثلين في هذه الحياة.

والإحسان لأنه اختياري فهو أعلى مرتبة من العدل، ونجد ذلك في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، فالإحسان فوق العدل، وذاك أن العدل هو أن يعطى ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطى أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، فالإحسان زائد على العدل، فتحري العدل واجب وتحري الإحسان ندب وتطوع.

ولذلك عظم الله قدر الإحسان لدرجة أنه جعله وصفاً للجنة، فقد ورد في القرآن الكريم بمعنى الجنة "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"، (الرحمن: الآية 60) فالإحسان الثانية بالآية هي الجنة.
أما البر فهو مرتبة أعلى من الإحسان، ولذا نجد أن سيدنا يحيى كان "براً بِوَالِدَيْهِ"، ولم يكن فقط محسناً إليهما، كذلك سيدنا عيسى كان "براً بِوَالِدَتِي"، فالله تبارك وتعالى عندما وصف درجة إحسان الأنبياء لوالديهم ارتقى بها لـ"البر".
و" البر"، كما جاء في كتب السلف يأتي على عدة أوجه: [الصلة - الطاعة - التقوى].

فالأول منها: البر بمعنى الصلة، في قوله تعالى في سورة البقرة: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا)، أي لئلا تصلوا القرابة، وكذلك في سورة الممتحنة.

والثاني: البر بمعنى الطاعة
وهنا نجد أن الله -سبحانه وتعالى- قد وصف الله نفسه بأنه "البر الرحيم"، فالبر هنا بمعنى أنه مطاع، ونجد مقابلها "إن الأبرار لفي عليين"، فالأبرار هنا هم الذين بلغوا درجة الطاعة.

وفي قوله تعالى في سورة المائدة: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، أراد بالبر الطاعة وترك المعصية.

وقال في سورة مريم: (وبراً بوالديه)، ومثلها في قصة عيسى (وبراً بوالدتي)، أي: مطيعاً لوالدتي.

الثالث: البر التقوى، مثل قوله تعالى في سورة آل عمران: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)، يعني حتى تبلغوا في الصدقة ما تحبون.
وهناك توسعات أخرى كثيرة في معاني "البر" ومعاني "الإحسان"، لكنني اخترت أبسطها لأقرب المعنى لنفسي وللقارئ.

الخلاصة أن الله -سبحانه وتعالى- وتخفيفاً على العباد، طالبنا بما نملك ونقدر عليه، وهو الإحسان إلى الوالدين، فإن استطعنا فبها ونعم "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".

أما درجة البر فهي الدرجة العلى، درجة بلغها الأنبياء والخاصة، وندعو الله أن يبلغنا إياها، وأن يرزقنا بر والدينا، وبر أولادنا.




HuffPost Arabi
Reactions

تعليقات